تفسير سورة الليل
مكية و آياتها إحدى و عشرون آية
( و الليل إذا يغشى ) أي يعم الخلق بظلامه .
( و النهار إذا تجلى ) ظهر بزوال ظلمة الليل أو تبين بطلوع الشمس .
و الليل و النهار هما آيتان من آيات الله الدالتان على ربوبيته تعالى الموجبة لألوهيته .
( و ما خلق الذكر و الأنثى ) و هو كقوله تعالى " و خلقناكم أزواجا " و كقوله تعالى " و من كل شيء خلقنا زوجين " .
( إن سعيكم لشتى ) أي إن عملكم أيها الناس لمختلف , منه الحسنات الموجبة للسعادة و الكمال في الدارين , و منه السيئات الموجبة للشقاء في الدارين - أي دار الدنيا و الآخرة - .
( فأما من أعطى ) أي أعطى ما أمر بإخراجه من العبادات المالية , كالزكوات , و الكفارات و النفقات , و الصدقات , و الإنفاق في وجوه الخير .
( و اتقى ) ما نُهي عنه , من المحرمات و المعاصي , على اختلاف أجناسها .
( و صدق بالحسنى ) أي صدّق ب " لا إله إلا الله " و ما دلت عليه , من جميع العقائد الدينية , و ما ترتب عليها من الجزاء الأخروي .
( فسنيسره لليسرى ) أي فسنهيئه و نوفقه للطريقة اليسرى , التي هي السلوك في طريق الحق , فنيسر له فعل كل خير , و نيسر له ترك كل شر , لأنه أتى بأسباب التيسير , فيسر الله له ذلك .
( و أما من بخل ) أي بالنفقة في سبيل الله , و منع ما وهب الله له من فضله من صرفه في الوجوه التي أمر الله بصرفه فيها. فلم يعط حق الله فيه و لم يتصدق متطوعا في سبيل الله .
( و استغنى ) بماله وولده و جاهه فلم يتقرب إلى الله تعالى بطاعته في ترك معاصيه و لا في أداء فرائضه , و لم ير نفسه مفتقرة غاية الإفتقار إلى ربها , الذي لا نجاة و لا فوز و لا فلاح , إلا بأن يكون هو محبوبها و معبودها , الذي تقصده و تتوجه إليه .
( و كذّب بالحسنى ) أي بوجود المثوبة للحسنى , لمن آمن الحق , لاسغنائه بالحياة الدنيا و احتجابه بها عن عالم الآخرة .
( فسنيسره للعسرى ) أي للطريقة العسرى المؤدية إلى الشقاء الأبدي , و هي العمل بما يكرهه الله تعالى و لا يرضاه من الذنوب و المعاصي و الآثام ليكون ذلك قائده إلى النار , قال الله تعالى " و نُقلّب أفئدتهم و أبصارهم كما لم يؤمنوا به أوّل مرة و نذرهم في طغيانهم يعمهون " .
( و ما يغني عنه ماله إذا تردّى ) يخبر تعالى بأن من بخل و استغنى و كذب بالحسنى حفاظا على ماله و شحا به و بخلا أن ينفقه في سبيل ربه هذا المال لا يغني عنه شيئا يوم القيامة إذا ألقي به في نار جهنم فتردى ساقطا فيها على أم رأسه .
( إن علينا للهدى ) أي علينا بموجب قضائنا المبني على الحكم البالغة , حيث خلقنا الخلق للإصلاح في الأرض , أن نبين لهم طريق الهدى ليجتنبوا مواقع الردى , و قد فعل سبحانه ذلك بإرسال الرسل , و إنزال الكتب , و التمكين من الإستدلال و الإستبصار , بخلق العقل و هبة الإختيار .
( و إنّ لنا للأخرة و الأولى ) أي ملكا و خلقا , ليس له فيهما مشارك فليرغب الراغبون إليه في الطلب , و لينقطع رجاؤهم عن المخلوقين . و الآية أيضا فيها إشارة إلى تناهي عظمته و تكامل قهره و جبروته , و إن من كان كذلك , فجدير أن يبادر لطاعته و يحذر من معصيته .
( فأنذرتكم نارا تلظى ) أي تستعر و تتوقد . قال رسول الله صلى الله عليه و سلم " إن أهون أهل النار عذابا يوم القيامة رجل توضع في أخمص قدميه جمرتان يغلي منها دماغه " رواه البخاري . و الأخمص هو المتجافي من الرجل عن الأرض . و في رواية لمسلم " إن أهون أهل النار عذابا من له نعلان و شراكان من نار يغلي منهما دماغه كما يغلي المرجل , ما يرى أن أحدا أشد منه عذابا , و إنه لأهونهم عذابا " . و الشراك هو أحد سيور النعل , الذي يكون على وجهها و على ظهر القدم .
( لا يصلاها إلا الأشقى ) لا يدخلها و يصطلي بحرها خالدا فيها أبدا إلا الأشقى أي الأكثر شقاوة و هو المشرك , و قد يدخلها الشقي من أهل التوحيد و يخرج منها بتوحيده , حيث لم يكذب و لم يتول , و لكن فجر و عصى , و ما أشرك و ما تولى .
( الذي كذب ) بالحق الذي جاءه .
( و تولى ) عن آيات ربه و براهينها التي وضح أمرها و بهر نورها , عنادا و كفرا .
( و سيجنبها الأتقى ) أي و سيزحزح عن النار التقي النقي الأتقى , ثم فسره بقوله تعالى ( الذي يؤتي ماله يتزكى ) أي يصرف ماله في طاعة ربه , ليزكي نفسه و ماله و ما وهبه الله من دين و دنيا .
( و ما لأحد عنده من نعمة تجزى إلا ابتغاء وجه ربه الأعلى ) فهو ينفق ما ينفقه في سبيل الله خاصة و ليس ما ينفقه من أجل أن عليه لأحد من الناس فضلا أو يداً فهو يكافئه بها لا لا , و إنما هو ينفق ابتغاء رضا ربه تعالى لا غير .
( و لسوف يرضى ) و لسوف يرضى من اتصف بهذه الصفات .
و قد ذكر غير واحد من المفسرين أن هذه الآيات نزلت في أبي بكر الصديق , حتى إن بعضهم حكى الإجماع من المفسرين على ذلك . و لا شك أنه داخل فيها , و أولى الأمة بعمومها , فإن لفظها لفظ العموم , و هو قوله تعالى " و سيجنبها الأتقى الذي يؤتي ماله يتزكى و ما لأحد عنده من نعمة تجزى إلا ابتغاء وجه ربه الأعلى " , و لكنه مقدم الأمة و سابقهم في جميع هذه الأوصاف و سائر الأوصاف الحميدة .